مقالات صحفية > في رثاء الخياط
 
حكاية مع «صانع صحافة الإثارة» عبدالله خياط

أنقذني من الفصل في مصر.. وكرمني «مع الفجر»!

شريف قنديل


في حياة كل صحافي مواقف تدعو للفرح والبهجة، وأخرى للأسى والشفقة! وكنت في مستهل مشواري الصحافي أتعرض لأقسى مايمكن أن يتعرض له محرر صغير، جاء من الريف المصري بحثًا عن مكان في مهنة المتاعب عبر بوابة جريدة «الجمهورية»! كان رضا القراء على الأقل في قريتي وإعجابهم بما أنقله من أخبار مثيرة، وما أطرحه من تحقيقات ميدانية يغريني بالاستمرار في الطرح الجريء الذي لم تكن الصحافة «القومية» قد انتهجته قبل مجيء الأساتذة الكبار جلال الدين الحمامصي وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري ومحسن محمد!


والذي حدث أنني كلفت بتغطية افتتاح وزير الصحة المصري اللواء طبيب صبري زكي، للتوسعة الجديدة بمستشفى منوف العام، فلما ذهبت مع الزملاء المكلفين من الصحف الأخرى، تعمدت الاقتراب من الوزير ومن المحافظ الدكتور حمدي الحكيم، علني أفوز بسبق صحافي من خلال الهمهمة! فجأة وفيما كانت أرض الشارع المؤدي للمستشفى مفروشة بالورد والرمل، سقط وكيل وزارة الصحة في فتحة المجاري المغطاة بالرمل، ولم ينقذه منها سوى يد الوزير من جهة ويد المحافظ من جهة أخرى!


في صباح اليوم التالي، راحت الصحف تتحدث عن توسعة المستشفى، وتكلفتها، وعدد الأسرة الجديدة، فيما كتبت في الجمهورية «سقوط وكيل وزارة الصحة في مجاري المنوفية»! وفي الصباح ذاته كانت الاتصالات قد جرت على مستويات عليا، ليتم اتخاذ القرار بوقفي عن العمل وإحالتي للتحقيق، تمهيدًا للفصل إذا مضت الأمور بشكل هادئ، وللحبس إذا تم تصعيد الموقف من وزير الحكم المحلي حينها اللواء سعد مأمون!


الشهامة وخفة الظل


على المقهي المجاور، جاء من يحدثني عن وصول الصحافي السعودي عبدالله خياط، واحتمالية تعاقده مع وجوه شابة للعمل في صحيفة «عكاظ»! وفي المساء كنا في حضرة الضيف النبيل الذي رآني مرتبكا وسألني عن السبب، فرويت ما حدث بالتفصيل! لم يمنع الأستاذ نفسه من الضحك، وطلب إعادة الحكي، خاصة أنا أصرح له بما حدث كاملا، ولم أتمكن من نشره، وبين الفترة والأخرى يسألني: قل لي وماذا فعل الوزير؟ وبماذا رد المحافظ!


قال لي الراحل النبيل: اهدأ تماما، ولا تحمل هما! إذا أردت الاستمرار في «الجمهورية» سأحكي الليلة مع الأخ محسن! وإذا أردت العمل في السعودية فلن أتركك! وطرت فرحا!


واصلت عملي في «الجمهورية»، قبل أن أنضم لمجموعة الشركة السعودية للأبحاث والنشر في لندن، ثم أنتقل للعمل في جدة ثم في الرياض، ثم في أبها.. وفيما كان الأستاذ يخضع للعلاج في أحد مستشفيات جدة، جاءني صوته، وعلت ضحكته، وهو يقول: إنت فين يا ولدي؟! قلت في أبها، قال ضاحكا: يبدو أنني أصبت بفيروس من الفيروسات المتولدة من فتحات الصرف الصحي في جدة، كتلك التي سقط فيها وكيل الوزارة.. وضحكنا من القلب! كان الأستاذ الخياط قد قرأ مقالي، الذي تعرضت فيه بالنقد لحلقة من برنامج «نواعم»، وبعيد القراءة، سأله زواره الكثر عن رأيه فيما ورد من حديث صريح وزائد عن الحد لمقدمات البرنامج عن «العادة السرية»!


متابعة ورصد


وفي صباح اليوم التالي، كتب الأستاذ الخياط في زاويته الشهيرة «مع الفجر»: برنامج نواعم.. مرفوض مرفوض! وقال الأستاذ: أمضيت الأسبوع الماضي بالمستشفى للعلاج من فيروس من الفيروسات التي لا حصر لعددها بجدة من كثرة ما بها من مصادر للأوبئة المنتشرة من شرقها، حيث بحيرة المسك، إلى الغرب حيث تلوث البحر، بما يندفع نحوه من مخلفات ومياه غير عطرة، إلى جانب ما حدث من بؤر المياه التي خلفتها الأمطار.


هكذا راح الأستاذ يشخص حال جدة في تلك الفترة من عام 1927 هـ قبل أن ينتقل في نفس الزاوية للحديث عن الحال في المنطقة الشرقية، قائلا: والآن، الحافظ الله، من مرض اللشمانيا المنتشر في الشرقية بفعل انتشار ذبابة الرمل والتي يتراوح طولها بين 3 - 5 مللميترات وفق ما نشرت جريدة «اليوم» بعدد يوم الخميس الماضي..


ويمضي الأستاذ الخياط قائلا: أعود للمستشفى الذي تفضل وزارني فيه عدد كبير من الأهل وأصدقاء العائلة من النسوة على مختلف أعمارهن.. وقد انحصر حديثهن في الاستياء مما أمسى يقدمه برنامج «نواعم» من موضوعات لا يليق طرحها بهذه الطريقة على المستوى العام تلفزيونيا.


كما لايصح الحديث عن تفاصيلها بالشكل الذي «تبقبق» به كبيرة الجلسة في البرنامج!


صحيح أنه لا حياء في الدين، ولكن الموضوعات الجنسية التي طرحها البرنامج خلال الأسبوعين الماضيين لم يكن فيها لتعليمات الدين نصيب وإنما أمراض نفسية وجنسية وعادات سرية!


دفاع الأستاذ


ثم ينصفني الأستاذ الخياط مرة أخرى، بعد تعرضي لهجوم أثر نقدي للبرنامج قائلا: «وقد صدق أخي الأستاذ شريف قنديل فيما كتبه بالوطن يوم الخميس 25 -10 - 1427 هـ عندما قال قي مقدمة «نشرة نقدية»: أبدا لم يكن كلام نواعم أو حتى خواشن ولم يكن يليق بالبيوت العربية وغير العربية، المسلمة وغير المسلمة.. كان الكلام من الفحش وسقط القول بحيث يعف اللسان عن التعليق...»


وبعيدا عن الموقف النبيل لفارس الكلمة المنمقة الراحل عبدالله خياط، تأمل معي في أي زاوية من زوايا «مع الفجر» لتكتشف ما يلي:


  • المقال لديه أطروحة متكاملة أو سرد قصصى ممتع!
  • الجملة منمقة، والمعني واضح والرسالة قوية 
  • الحس الأدبي الجميل، والأسلوب الفكاهي الموجع أحيانا والصارم أحيانا أخرى
  • الحرص الشديد على متابعة كل ما ينشر في الصحف من أخبار وتقارير وأعمدة صحفية
  • التواضع الجم وهو يقدم تلاميذه بهذه الطريقة المحببة وكأنهم زملاؤه بالفعل.


آثرت تسجيل الموقفين، لفقيد الصحافة العربية الراحل، الذي غادرنا وقد أثرى الذاكرة العربية بالعديد من المواقف والاطروحات. وهو بالاضافة الي ذلك، سيظل أحد رواد الاثارة الصحفية الهادفة والجاذبة.. وأحد شيوخ المهنة العريقة.. وصدق الدكتور هاشم عبده هاشم وهو ينعاه بالأمس قائلا: وداعا صانع صحافة الإثارة!

 
صحيفة المدينة - 18/02/1440 / 26/10/2018